نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بيوتروفسكي وملحمة الملك أسعد الكامل وسؤال الهوية في اليمن! - ميديا سبورت, اليوم الاثنين 24 فبراير 2025 01:57 مساءً
الدعوات التي تَرفع، في السنوات الأخيرة، شعارا ينفي الانتماء العربي لليمن، تقع في فخ رد الفعل، فتبدو وكأنها تحاول نفي عروبة اليمن لصالح هوية يمنية مغلقة على ذاتها، بينما التاريخ يثبت أن الحضارة اليمنية القديمة، ولاحقاً فكرة الهوية القحطانية التي برزت بعد الإسلام، كانتا جزءاً من الهوية العربية، بل وأصلها المكين.
التحدِّي الحقيقي اليوم هو في إعادة الاعتبار للثقافة الوطنية اليمنية كفاعل أساسي في تشكيل الوعي العام، بحيث تتجاوز كونها مجرد موروث، إلى كونها مشروعاً حياً يعيد تشكيل الحاضر والمستقبل على أُسس المواطنة والتعايش ودولة القانون التي يتساوى أمامها الجميع، لا على أساس العِرق أو الطائفة، أو المنطقة والجغرافيا الضيِّقة.
اليمنيون عربٌ لا بالانتماء العِرقي المجرد فحسب، بل باللغة والقيم المشتركة والتاريخ والجغرافيا، وبالثقافة التي تشكِّلهم، وبالدّور الذي أدّوه في التاريخ العربي والإسلامي.
اليمنيون ليسوا بحاجة إلى نفي عروبتهم كي يثبتوا وجودهم، ولا إلى استعادة لغة المسند ليؤكِّدوا فرادتهم، بل إلى إحياء وعيهم بذاتهم في سياق حديث يجعل من الانتماء إلى اليمن مدخلًا إلى استعادة اليمن كمتحد اجتماعي وطني يتسع لجميع أبنائه، في ظل رؤية وطنية حقيقية، لا مجرد شعارٍ ثقافي مُفرغ من مضمونه.
-إحياء التّاريخ اليمني القديم خارج اليمن
لم يكن إحياء التاريخ اليمني القديم والعودة إلى صفحاته ومآثره، وكتابة السرديات والملاحم الأدبية عن ملوكه التبابعة، نزوعاً خاصاً باليمن ومرتبطاً بصراعاتها السياسية، وإنما كانت بداياته خارج اليمن، وكان قريناً لإحياء التاريخ العربي والفخر بأمجاده.
اليمنيون، الذين غادروا اليمن قبل الإسلام واستقروا في الشام والحجاز وشمال أفريقيا، وبجانبهم من هاجروا من اليمن في موجات الفتوحات الإسلامية، كانوا أكثر حنينا لتاريخ اليمن الحضاري الذي لم يخفت في نفوسهم.
هذا ما يؤكده المؤرخ الروسي ميخائيل بتروفيسكي، الذي خصّص كتابه "ملحمة عن الملك الحِميري أسعد الكامل" لدراسة هذه الظاهرة، متتبعاً جذورها وأهدافها.
يقول بتروفيسكي في مقدِّمة كتابه إن اهتمامهُ بالملحمة اليمنية الحِميرية، وما كُتب عنها في حقب تاريخية مختلفة، لم يكن مجرد انشغال أدبي، بل كان ذا بُعدين أساسيين:
أولهما: تحليل علمي لتاريخ الملحمة، ويُقصد بها مجموعة الكُتب والسرديات الملحمية حول ملوك حِمير التبابعة، وكيف نشأت، ومِن أي أصول تكوَّنت، ومن أي أجزاء.
ثانياً: استكشاف مدى إمكانية توظيف هذه الملاحم كمرجع في دراسة وتاريخ الشعب اليمني، إذ تحمل بين طيَّاتها معلومات تاريخية دقيقة، رغم كونها تُقدَّم ضمن إطار أدبي ملحمي.
الكتابة عن هذه الملاحم ليست فحسب استعادة لأدب تقليدي ملحَمي، بل هي في جوهرها عملية إحياء لتراث اليمن والعرب، واستعادة لذاكرة حضارية عريقة، ليست ملكاً للعرب وحدهم، بل جزءاً من الإرث الإنساني المشترك.
فالتراث التاريخي، في رأي المؤرخ الروسي بيوتروفسكي، لا يُقاس فقط بحدوده الجغرافية، بل بقيمته الحضارية، ومدى إسهامه في تشكيل الوعي البشري.
ربما يندهش القارئ عندما يعرف أن حركة إحياء التاريخ اليمني القديم لم تنطلق من داخل اليمن ذاته، بل من اليمنيين الذين غادروه قبل الإسلام، وخلال الفتوحات الإسلامية، إذ ظلّ وعيهم بحضارتهم القديمة حياً في نفوسهم، رغم أن هذه الحضارة كانت قد انحسرت في القرنين السادس والسابع الميلاديين. وهذا يؤكد أن إحياء الموروث اليمني، وتاريخ الحضارة اليمنية القديمة، ظاهرة امتدت خارج الحدود الجغرافية لليمن، وتحوّلت إلى عنصر أساسي في تشكيل الهوية العربية الأوسع.
وإذا جاز لنا القول إن الهوية القومية العربية، التي انبثقت مع الإسلام واكتسبت قوَّتها وتماسكها في زمن ازدهار الدولة العربية الإسلامية، تقترب من أي مكون جزئي من مكوّناتها، فهي أقرب إلى اليمن لا إلى شمال الجزيرة.
الإمبراطورية الحِميرية قبل الإسلام كانت واحدة من أربع حضارات سادت العالم، في منتصف القرن الثالث الميلادي، حسب ما ذكره المؤرخ والفيلسوف الألماني أوسفالد شبنغلر في كتابه الشهير "تدهور الغرب".
وحسب قوله، فقد كان الفُرس والرُّومان والصينيون يرسلون الوفود للمشاركة في احتفالات اليمنيين الحِميريين الذين أقاموا إمبراطورية عربية ممتدة تتجاوز الجزيرة، وهي على مكانتها في التاريخ العالمي ليست سوى الحلقة الأقرب زمنيا من تاريخ اليمن القديم وحضاراته الضاربة جذورها في أعماق التاريخ.
في هذا السياق، درس المؤرخ الروسي بيوتروفسكي شخصية الملك الحِميري أسعد الكامل، ليس فقط لكونه المحور الأساسي للملحمة اليمنية، بل أيضاً لأنه يُعد من أعظم ملوك اليمن القديم، وشخصية مفصلية في التاريخ العربي. فإليه يعود الفضل في رسم معالم سياسية وثقافية امتدت تأثيراتها عبر قرون من الزّمن.
شهد النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي أول تكتل للقبائل القحطانية خارج اليمن، حيث ظهر الاتحاد القبلي في سوريا، بالتقاء عرب اليمن، الذين خرجوا ضمن موجة الفتوحات الإسلامية، بالسكان المحليين الذين تعود أصولهم إلى اليمن، ليشكّلوا كياناً سياسياً جديداً.
ظاهرياً، قام هذا الاتحاد على صِلة الرّحم والانتماء المشترك، لكنه في جوهره كان تحالفاً سياسياً يسعى لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية، ممّا يعكس مرونة الهوية اليمنية وقدرتها على التكيّف مع المتغيِّرات في إطار الهوية العربية الإسلامية الأوسع، التي كانت اليمن جزءاً أساسياً منها، وشريكاً فاعلاً في تشكيلها كهوية ودولة.
سأعود في مقال آخر لعرض كتاب المؤرخ الروسي ميخائيل بيوتروفسكي بشكل أوسع، وإنما عدت إليه هنا لأقول إن بعث الهوية اليمنية لم يكن مشروعًا مضادًا للعروبة، بل كان جزءاً من تشكيل الهوية العربية السياسية في لحظة فارقة من التاريخ الإسلامي.
لم يكن هناك تعارض بين الهوية اليمنية والعربية، بل على العكس، تم تبنِّي الهوية القحطانية الحِميرية كأحد أعمدة تثبيت المشروع العربي في العصر الأموي، الذي سعى إلى تعريب الدَّولة، ليس فقط لغوياً، بل إدارياً وثقافياً.
-الهوية اليمنية في السياق العربي الإسلامي: سياسية لا انعزالية
في عصر الدّولة الأموية، التي اتخذت من الشام مركزاً لها، برزت إشكالية تكوين هوية سياسية جامعة، خاصة مع التحدّيات التي فرضتها الصراعات الداخلية بين المكوِّنات القبلية العربية، ووجود إرث إداري فارسي ورُومي ما زال حاضراً في البنية الإدارية للدولة. لهذا، كان الرّهان على الهوية العربية في شقيها القحطاني والعدناني أمراً جوهرياً لترسيخ سلطة الدّولة في ظل الهوية العربية الإسلامية الجامعة، مع توظيف التوازنات القبلية في بناء النّظام السياسي والعسكري.
لم يكن إحياء القحطانية استعادة لزمن ماضٍ، بل كان أداة سياسية لتعزيز الهوية العربية للدولة، وليس لمناهضتها.
ومن المفارقات أن الأمويين، وهم من قريش العدنانية، كانوا في كثير من الأحيان أكثر اعتماداً على قوة القبائل ذات الأصل اليمني في الشام، حيث كانت القبائل اليمنية مهيمنة هناك منذ فترات ما قبل الإسلام.
وبالمثل، لم يكن الصراع بين القيسية (العدنانية) واليمنية (القحطانية) في الدولة الأموية ولاحقاً في الأندلس صراعاً على العروبة، بل صراعاً داخلياً في الإطار العربي ذاته، كان له أبعاد سياسية أكثر من كونه صراعاً هوياتياً جوهرياً.
من أهم الدلائل على أن الدولة الأموية لم تكن تنظر إلى الهوية اليمنية كبديل عن العروبة، بل كجزء منها، هو قرارها التاريخي بتعريب الإدارة.
كانت الدّولة العربية، منذ عصر الخلفاء الراشدين وحتى الأموي، تعتمد على العناصر الأجنبية في إدارة شؤون الدواوين، فكان "ديوان الخراج" في العراق مكتوبا باللغة الفارسية، وفي الشام كان باللغة اليونانية، وكانت العُملة النّقدية المتداولة في الدولة هي العُملة البيزنطية وبعض النّقود الفارسية والحِميرية القديمة،
وكذلك كانت لغة المراسلات الرّسمية فارسية في الدواوين الشرقية، ويونانية في الدواوين الشامية، لكن عبد الملك بن مروان اتخذ قراراً بإحلال العربية محل هذه اللغات، في خطوة فارقة في بناء الدّولة العربية الإسلامية.
هذا القرار لم يكن فقط تعريباً للغة، بل كان تعريباً للفكر الإداري، وإعادة هيكلة لنظام الدّولة ليكون عربياً في جوهره، وليس مجرد دولة قائمة على بقايا نُظم سابقة. وهنا تكمن المفارقة: إذا كان الأمويون قد اعتمدوا على القحطانية في بناء تحالفاتهم السياسية، فقد اعتمدوا على اللغة العربية في بناء دولتهم، مما يؤكد أن المشروع القومي العربي، في لحظته التأسيسية الأولى، لم يكن قائماً على إقصاء أي من مكوّنات العروبة، بل على توحيدها في إطار سياسي وإداري واحد.
هذه الخلفية التاريخية تقول إن إحياء الهوية اليمنية لا ينبغي أن يكون رد فعل يرتكس إلى هوية انقسامية تكمل لوحة الهويات الجزئية التمزيقية، ولا أن يكون استحضار ماضي الحضارة اليمنية العريق مدخلاً إلى نزعة انعزالية تضع اليمن خارج السياق العربي. فالهوية اليمنية لم تكن يوماً نقيضاً للعروبة، بل كانت عنصراً فاعلًا في تشكيلها، وهذا ما يجب استعادته اليوم: الهوية اليمنية كفاعل في بناء متحد وطني متلاحم ومندمج، وأن تكون خارج اليمن شريكاً فاعلاً في بناء مشروع عربي حديث، لا كهامش معزول يبحث عن أصله في النقوش القديمة.
-استعادة الوعي بقيم المواطنة ودولة المواطنين
لقد حمل اليمنيون اللغة العربية إلى مشارق الأرض ومغاربها، قبل الإسلام وبعده، وكانت لهجاتهم جزءاً أصيلاً من التنوّع اللساني العربي، لا نقيضاً له. فكيف يكون من المنطقي اليوم أن تُصوَّر العربية وكأنّها طارئة عليهم، وأن يُعاد تشكيل الهوية اليمنية عبر استدعاء لغةٍ ميّتة لم يعد لها وجود سوى في المتاحف والنّقوش؟
العربية، التي يتحدث بها اليمنيون اليوم، ليست قيداً مفروضاً عليهم، بل امتداد طبيعي لمسيرتهم الحضارية، لغة تماهوا معها حتى أصبحت ممتزجة بوعيهم وطريقة تفكيرهم، وفضاء لغوي يعكس تعبيراتهم ووجدانهم وملاحمهم الشعرية والسردية والغنائية.
يحتاج اليمنيون، في هذه اللحظة القاتمة، إلى إحياء تاريخهم المشترك كشعب، وهويتهم الثقافية؛ لإعادة إنتاج الهوية الوطنية اليمنية وفق رؤية حديثة تُعيد تعريف اليمني في ضوء قيم المواطنة، والتعدد، ودولة القانون، والعيش المشترك، لا العودة إلى الماضي كحالة ارتكاسية تثبت الهزيمة في الحاضر أمام المشاريع التمزيقية والهويات ما قبل الوطنية، وتضيف إليها مشروعا انعزاليا جديدا.
*بلقيس نت
0 تعليق